فصل: فصل آخر في بيان أقوى أسباب الحيرة الأخيرة التي للأكابر وأسرارها بلسان ما بعد المطلع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل آخر في بيان أقوى أسباب الحيرة الأخيرة التي للأكابر وأسرارها بلسان ما بعد المطلع:

اعلم، أنّه قد ذكر لك أنّ الإنسان فقير بالذات، وأنّه دائما طالب ومتوجّه إلى ربّه من حيث يدري ومن حيث لا يدري، وخصوصا أهل طريق الله، فإنّهم طالبون بالذات والفعل والحال.
فمن تعيّنت له منهم وجهة ظاهرة مقيّدة بجهة من الجهات، أو باطنة في أمر مّا من المعقولات، أو تقيّد طلبه للحقّ إن زعم أنّه من طالبيه بحسب علم عالم، أو اعتقاد معتقد، أو شهود مشاهد، أو من حيث اعتبار مميّز، أو أمر مّا معيّن كائنا ما كان، فهو ممّن استشعرت نفسه بغايته، وممّن يكون له الرأي عند الفتح، وممّن يضعف حكم الحيرة المنبّه عليها فيه، أو تكاد تزول ممّن يأخذ أو يترك، ويقبل ويعرض، ويختار ويرجّح.
ومن لم يبق له في العالم- من كونه عالما- رغبة، بل ولا في حضرة الحقّ لأجل أنّها مصدر للخيرات، وسبب لتحصيل المرادات، وتعدّي مراتب الأسماء والصفات، وممّا ينضاف إليها من الأحكام والآثار والتجلّيات واللوازم التابعة لها من النسب والإضافات، فلم يتعيّن له الحقّ في جهة معنويّة أو محسوسة من حيث الظاهر أو الباطن بحسب العلوم والمدارك والعقائد والمشاهد والأخبار والأوصاف وغير ذلك ممّا ذكر ولشعوره أيضا بعزّة الحقّ وإطلاقه وعدم انحصاره في كلّ ذلك أو في شيء منه، ولعدم امتلائه، ووقوف همّته عند غاية من الغايات التي وقف فيها أهل المواقف المذكورة آنفا، وإن كانوا على حقّ، وقفوا بالحقّ له وفيه، بل أدرك بالفطرة الأصليّة الآليّة دون تردّد أنّ له مستندا في وجوده، وتحقّق أن ليس هو، وأقبل بقلبه وقالبه عليه مواجهة منه ومقابلة لمستنده بأجلّ ما فيه، بل بكلّيّته، وجعل حضوره في توجّهه إلى ربّه هو على نحو ما يعلم سبحانه نفسه في نفسه بنفسه، لا على نحو ما يعلم نفسه في غيره، أو يعلمه غيره، فإنّه يصير حاله حينئذ حالا جامعا بين السفر إلى اللّه ومنه وفيه لأنّه غير مسافر لنفسه ولا بنفسه، ولا في نفسه، ولا بحسب علومه الموهوبة أو المكتسبة بالوسائط المركّبة أو البسائط.
وهذه الحالة أوّل أحوال أهل الحيرة الأخيرة، التي يتمنّاها الأكابر ولا يتعدّونها، بل يرقون فيها أبد الآباد دنيا وبرزخا وآخرة، ليست لهم وجهة معيّنة في الظاهر أو الباطن لأنّه لم يتعيّن للحقّ عندهم رتبة يتقيّد بها في بواطنهم وظواهرهم، فيتميّز عن مطلوب آخر، بل قد أشهدهم إحاطته بهم سبحانه من جميع جهاته الخفيّة والجليّة، وتجلّى لهم منه لا في شيء ولا جهة، ولا اسم ولا مرتبة، فحصلوا من شهوده في بيداء التيه، فكانت حيرتهم منه وبه وفيه.
وصل أعلى منه وأجلى وأكشف للسرّ فرعا وأصلا:
اعلم، أنّ الوجود المحض من حيث هو لا يكون مرئيّا ولا متعيّنا ولا منضبطا، وأعيان الممكنات- سواء قيل فيها: إنّها عين الأسماء، أو حكم بأنّها غيرها- فإنّها- من حيث هي أعيان مجرّدة- لا يتعلّق بها إدراك أصلا، ولا تنضبط إلّا من حيث التصوّر الذهني، وتعيّنها في الذهن عارض إذ ليس هو نفس تعيّنها الأزلي في علم الحقّ، فإنّ ذلك ثابت أزلا وأبدا ثبوت الحقّ، وهذا التعيّن عارض للذهن المتصوّر. وغاية هذا التعين أن يشبه ذلك من حيث المحاكاة، والمحاكاة إنّما تكون بحسب تصوّر المحاكي، وقوّته وذهنه ليس بحسب ما هي الحقائق المتصوّرة في نفسها بالنسبة إلى تعيّنها في نفس الحقّ، فليس أحد من الخلق بمدرك لها من حيث هي كما هي، ولا للوجود ولا لذات الحقّ من حيث إطلاقها عن أحكام النسب والإضافات.
ولا نشكّ أنّ ثمّة إدراكا أو إدراكات لمدرك أو مدركين يتعلّق بمدرك أو مدركات، فما الذي أدرك؟ ومن المدرك له؟ وليس ثمّة إلّا ما ذكرنا وبيّنّا أنّه يتعذّر إدراكه كما هو. إن كان متعلّق الإدراك النسب مع أنّها أمور عدميّة يلزم أن يكون المدرك لها وما أدرك به مثلها لأنّ الشيء لا يدرك بغيره من حيث ما يغايره، ولا يؤثّر فيه ما يباينه من الوجه المباين هذا ما لا تردّد فيه عند الكمّل ولا دفاع له، ولا ثمّة- كما مرّ- إلّا وجود واحد تفرّع منه ما أضيف إليه ممّا يسمّى صفات وأحوالا ولوازم.
وكلّها معان بسيطة لا تقوم بنفسها، ولا يظهر حكمها إلّا بالوجود، والوجود شرط لا مؤثّر ومع كونه كذلك فلا يتعيّن بنفسه فيدرك، ولو تعيّن من كان مدركه إذا كان ما سواه لا وجود له إلّا به وهو غير متعيّن بنفسه، بل لابد له من أمر يظهر به ويكون مرآته، ووظيفته- أعني الوجود- الإظهار لا غير، والإظهار له هو من كونه نورا، والنور يدرك به ولا يدرك هو، فلا يستقلّ بالظهور، فكيف بالإظهار لأنّ الإظهار موقوف على اجتماع واقع بين النور وما يقبله، ويظهر بظهوره إمّا لمعنى يعبّر عنه بالاشتعال، أو المحاذاة والانطباع، فهو حينئذ موقوف على نسبة الجمع، والجمع أيضا نسبة أو حال كيف قلت، فكيف يتحصّل من مجموع ما لا يقوم بنفسه ولا يستقلّ ولا يثبت ما يقوم بنفسه ويحكم بثبوته؟! وكيف ينقسم ما لا يقوم بنفسه لذاته أوّلا في ثاني الحال إلى ما يقوم بنفسه ويكون مرئيّا، وإلى ما يقوم بنفسه وبغيره ويسمّى رائيا، وإلى ما لا يقوم بنفسه، كالأمر في الأوّل، وهو بعينه عين كلّ قسم من الأقسام المذكورة، فيرى لا يرى، ويرى لا يرى، وينقسم لا ينقسم، ويستقلّ لا يستقل، ويجتمع مع أنّه لا يتعدّد ولا يتغيّر، ويظهر بالجمع الذي لا وجود لعينه مع استحالة ظهوره بنفسه، ومع كون الجمع صفته الذاتيّة فالجمع حالة واحدة، والاجتماعات بحكم الجمع أحوال لعين واحدة، والوحدة لا تتصوّر إلّا بمقابلها وهو معنى الكثرة ولا كثرة إذ ليس ثمّة إلّا أمر واحد متنوع، فأين الجمع، والوحدة ليست ثمّة أيضا إلّا بالتقدير فإنّ المدرك هو الكثير، والمميّز عن الكثرة حال طلب التميّز والحكم به غير متميّز، بل مقدّر له التميّز بالفرض، وبالنسبة إلى تشخّصه في بعض الأذهان، وأمّا هل هو في نفسه مع قطع النظر عن هذا الفرض وهذا التشخّص على نحو ما قدّر له وحكم به عليه أولا؟
حديث آخر، بل الأمر في نفسه جزما ليس كذلك لأنّ هذه الأحكام كلّها طارئة، والذي يقتضيه المحكوم عليه لذاته ثابت له أزلا من نفسه لا لموجب.
ثم إنّ هذه الأحكام كلّها والأحوال تابعة لإنّيّة كلّ مدرك من المدركين بالنسبة إلى مداركه ومشاعره، فالشيء لم يدرك على ما هو عليه أصلا ولا اهتدى إليه.
ثم نقول: والمسمّى عالما لم يكن مظروفا للحقّ لاستحالة ذلك، ولا ظرفا له لأنّ اللّه كان ولا شيء معه، ولا كان عدما محضا فصار وجودا لأنّه لو كان كذلك لزم انقلاب الحقائق، وأنّه محال، فمن المدرك منّا؟ ومن المدرك؟ ومن العالم من مجموع ما ذكرنا؟ ومن الحقّ؟ ومن العالم والعلم والمعلوم؟
والنسب كما بيّنّا أمور عدميّة لا وجود لها إلّا في الأذهان، والأذهان وأصحابها لم يكونوا ثم كانوا، وكينونة الجميع إن كانت من النسب كما مرّ فقد ظهر الموجود من المعدوم، وإن كانت ظاهرة عن الوجود، فالوجود لا يظهر عنه ما لا وجود له ولا أثر له كما مرّ من حيث هو وجود صرف لأنّه واحد، والواحد البحت لا ينتج شيئا ولا يناسب ضدّه، فيرتبط به، وما لا وجود له مضادّ للوجود، فكيف الأمر؟
ولا يظهر عن الوجود أيضا عينه لأنّه يكون تحصيلا للحاصل، وإن ظهر عنه عينه لا على النحو الحاصل لابد له من موجب غير نفس الوجود لأنّه لو كان موجبه نفس الوجود لزم مساوقته له أزلا وأبدا، ولا جائز أن يكون موجبه وجودا آخر لما يلزم من المفاسد البيّنة الفساد لو كان كذلك، ولا جائز أيضا أن يكون الموجب نسبة عدميّة لأنّه يلزم حينئذ تأثير المعدوم في الوجود.
واستناد كلّ ما ظهر إمّا إلى ما لا وجود له، وإمّا لوجود ونسبة معا بشرط اجتماعهما، واجتماعهما إن كان طارئا لزم منه مفاسد لا تكاد تنحصر لأنّ المقتضي للاجتماع إمّا كلّ منهما أو أحدهما أو ثالث، فإن كان الوجود، لزم أن يكون فيه جهة تقتضي الاقتران بالنسبة المعدومة ثانيا، مع عدم اقتضائها ذلك أوّلا، وفيه ما فيه من المحالات التي لا حاجة إلى تعديدها.
وإن كانت النسبة هي المقتضية للجمع، لزم أن يكون ما لا وجود له يوجب حكما وأثرا في الوجود، وأن يكون سببا لظهور كلّ موجود، وغير ذلك من المحالات مع أنّ الجمع في نفسه لا وجود له، بل هو نسبة كما مرّ.
وإن كان أمرا ثالثا عاد السؤال لأنّ ذلك الثالث لا يخلو، إما أن يكون وجودا أو نسبة.
ويلزم ما مرّ ذكره، والأمر غير خارج عن هذه الضروب المذكورة، فكيف الأمر؟ فيثبت الحيرة.
وإن استندنا إلى الإخبارات الإلهيّة، فالكلام فيها كالكلام فيما مر لأنّها لابد وأن تكون تابعة للمدارك، والمدارك أوصاف تابعة للموصوف، والموصوف لم يثبت بعد ما هو؟
فما الظنّ بما هو تبع له ومتفرّع عنه؟ ومع هذه كلّه فالإدراكات حاكمة ومتعلّقة بمدارك متعدّدة من حيث تنوّع ظهوراته، أو بمدركات شتّى، وثمّ لذّة هي عبارة عن إدراك الملائم، وألم يعبّر عنه بأنّه إدراك غير الملائم، وثمّة ظلمة ونور، وحزن وسرور، فالكلّ ثمّة وما ثمّة كلّ ولا جزء ولا ثمّة، فما العمل؟ وما من وكيف؟
ولا تظنّنّ أنّ هذه الحيرة سببها قصور في الإدراك، أو نقص مانع من كمال الجلاء هنا والاستجلاء لما هناك، بل هذه حيرة إنّما يظهر حكمها بعد كمال التحقّق بالمعرفة والشهود، ومعاينة سرّ كلّ موجود، والاطّلاع التامّ على أحديّة الوجود، لكن من تقيّد، وقف لضيقه وما سار وانقهر لحكم ما عاين، فانحرف ومار، ومن اتّسع، جمع وكشف، فأحاط فدار وحار وما إن حار، بل جرى وانطلق فمار وجار واستوطن غيب ذات ربّه متنوّعا بشئونه سبحانه وبحسبه بعد كمال الاستهلاك فيه به فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ. هذا مقام السار.
تنزّل إلى الأفهام وتأنيس وإيضاح مبهم بتمثيل نفيس:
ربما استنكرت أيّها المتأمّل ما أشرت إليه آنفا في سرّ الحيرة لأنّ فهمك ينبو عن درك سرّه، وأنت المعذور لا أنا حيث أذكر لك مثل هذا وأتوقّع منك ومن الناس فهمه واستخلاص المقصود من مشتبهه، وعلمه.
اللهمّ إلّا من حيث إنّي محلّ لتصرّف ربّي ومرآة له، فهو يظهر بي ويظهر ما يشاء من شأنه، ويوضح ما اختاره من برهانه، فإنّي أيضا مقهور، لا مختار ولا مجبور، وها أنا أتنزّل من ذلك المرقى الجليل إليك وإلى غيرك بالتمثيل، للتفهيم وهدى السبيل، فارعني سمعك، وأرصد لي لبّك وفهمك، والله المرشد.
اعلم، أنّه سواء كان المتأمّل لهذا الكلام من المرجّحين لمذهب المتكلّمين، أو النظّار المتفلسفين، فإنّه لا يشكّ أنّ ما يدركه من عالم الأجسام الذي هو فيه مركّب من جوهر وعرض، أو هيولى وصورة، فالجوهر لا يظهر إلّا بالعرض، والعرض لا يكون إلّا بالجوهر، كما أنّ الهيولى لا يوجد إلّا بالصورة، والصورة لا تظهر إلّا بالهيولى، ومعقوليّة الجسم المتعيّن في البين عبارة عن معنى ما يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة: الطول، والعرض، والعمق.
ثم إنّ الهيولى المجرّد عند أهل النظر لا يقبل القسمة عقلا، وكذلك الصورة، مع أنّه بحلول الصورة في الهيولى صارتا جسما، وقبلتا القسمة، فانقسم ما كان لذاته غير قابل للقسمة، مع أنّه لم يحدث إلّا الاجتماع، وهو نسبة كسائر النسب، فافهم.
ثم إنّ الطبيعة- التي تولّد عنها ما تولّد- عبارة أيضا عن معنى مجرّد مشتمل على أربع حقائق تسمّى: حرارة، وبرودة، ورطوبة، ويبوسة. وذلك المعنى يناسب كلّا من هذه الأربعة بذاته، بل هو عين كلّ واحدة منها مع تضادّها، ومع كونها- أعني الطبيعة- من حيث هي معنى جامعا للأربعة المذكورة. وهذه وجميع ما تقدّم ذكره عبارة عن معان مجرّدة لا يمكن ظهور شيء منها وإدراكه بمفرده، ولا بدون الوجود فإنّ وجود الجميع أيضا من كونه وجودا بحتا لا يتعيّن بنفسه، ولا يظهر من حيث هو فيدرك، فإذا اجتماع هذه المعاني هو المستلزم لظهورها، وإدراكها، والاجتماع نسبة أو حالة لا وجود لها في عينها، وما ثمّة أمر آخر يتعلّق به الإدراك، وقد تعلّق فما هو؟ وكيف هو؟ وهذه صورتك التي من حيث هي أمكنك إدراك ما تدرك ناتجة عن الأصول المذكور شأنها، وأجلّها الطبيعة، فالصور ظهرت عن الطبيعة.
وإذا أمعنت النظر فيما ظهر عنها لم تلفه شيئا زائدا عليها، ومع أنّ الذي ظهر ليس غيرها، فليست من حيث معقوليّة كلّيّتها عين ما ظهر، ولم تزدد بما ظهر عنها ولم تنتقص ولم تتميّز إذ ليس ثمّة غير فتميّز عنه لأنّ الذي ظهر عنها جزما ليس غيرها، وهذا ما لا خفاء فيه، فافهم.
وأمّا روحك الذي تزعم أنّه مدبّر لصورتك وكلّ ما يسمّى روحا فالحديث فيه أبسط وأطول، وسرّه أخفى وأشكل، وعن كنه ربّك فلا تسأل، فقد منعت الخوض فيه وأويست فلا تطل.
فسر بعد وألق عصا التسيار ** فما بعد العشيّة من عرار

ولعمر الله إن جمعت بالك ممّا نبّهتك عليه، واستحضرت ما مرّ ذكره، وأضفت هذا الفصل والذي يليه إليه، رأيت العجب العجاب، وعرفت السرّ الذي حيّر أولي الألباب.